منذ يومين ذهبت الى موقع التفجير الضخم بكنيسة مارجرجس في مدينة طنطا، حيث قتل واصيب العشرات، قمت بعملي في التغطية وسط أجواء من الغضب والحزن والتحفز. اليوم فقط انتبهت لما رأيته، انتبهت للدماء التي كنت احاول تفادي الخطو فوقها، انتبهت لرائحة الموت التي ملأت قاعة الصلاة، تذكرت ما شعرت به من اختناق داخل القاعة، ورغم أنني بقيت لساعات اسعى للدخول لأداء عملي، لم استطع أن اكمل خمس دقائق بالداخل.
فكرت كيف بدونا نحن القادمون من القاهرة الى هذه الكنيسة الكبيرة في الدلتا كمتطفلين نستجوب الحزانى والمكلومين ونصورهم، ننقل قصص خسارتهم ونجاتهم وصدمتهم للعالم، ولكننا لم نفدهم بشئ في الحقيقة. بم يفيد نشر الحقائق والمعلومات سيدة تجاوز الثمانين حضرت الى كنيستها بعد أن راح أحد أقاربها واصيب آخر باصابة بالغة، بم تفيد قصتي الصحفية التي نشرت لاحقا الشاب الصغير المصدوم الذي استمر في نقل اشلاء اصدقائه وابناء كنيسته طوال اليوم. لا شئ، لا شئ سيعيد من راح، ولا شئ سيشفي من خسر عينه أو ذراعه. في لحظات الفاجعة تلك اسأل نفسي كثيرا عن فائدة مهنتي التي اخترتها منذ سنوات، والتي تحولت في السنوات الأخيرة الى دفن الموتى، ضحايا الارهاب والعنصرية وضحايا الدولة القمعية العسكرية الفاشلة.
الآن أشعر بثقل ذلك اليوم الأسود عبرالألم في ظهري وعنقي، ليس ألما ناتجا عن جهد، بل ألم ناتج عن عشرات المشاعر والأفكار المتناقضة، ألم ناتج عما خزنه رأسي من صور وروائح عدة، خزنها حتى انهيت عملي بشكل آلي ، والآن كأنني استعدت ذاكرة فقدتها ليومين، الآن رائحة الموت لاتزل في أنفي، ولا أعلم كيف أتخلص منها، وكيف أتخلص من شعور بالذنب والتقصير لا استطع في الحقيقة وضع يدي على اسبابهما بالتحديد.
في الحقيقة لم أكن مضطرة ابدا للذهاب، لكنني انتهزت الفرصة لذلك، شعرت أن مكاني ليس في مكتبي بالقاهرة، بل يجب ان يكون هناك وسط الفاجعة، لم افكر في خطر أو في اي شئ سوى أنني علي أن ارى بنفسي ما حدث وأحاول توثيقه، ربما لنفسي ايضا، ربما لذاكرتي أنا وليس لذاكرة الصحافة أو الهجمات الإرهابية.
اثناء العمل يجب أن تكون متيقظا، مهنيا، ومراعيا بالطبع لمشاعر المكلومين، يجب أن تكون سريعا، فالصحافة غالبا ليس مرحب بها في تلك الأجواء، يجب أن تكتب قصتك سريعا لتجد طريقها وسط الأخبار المتوالية عن الحادث الارهابي حول العالم، في الحقيقة تلك جميعها أمورا جيدة، تشغلك قليلا عن الحدث وربما عن التعاطف، ولكن حين تنتهي المهمة تشعر أنك ربما لم تعتذر بشكل كاف، لم تظهر تعاطفا كافيا، لم تربت على كتف الحزانى بشكل قوي، ولكن في المقابل لو تركت نفسك للحظة للانخراط، لن تفعل شيئا، سيكون من حقك تماما أن تجلس على السلم الممتلئ بشظايا الانفجار وتبكي.
حين عدت الى القاهرة، تذكرت أنني لم أقرأ الفاتحة على أرواح الضحايا او افعل أي شئ للحداد هناك، غضبت جدا على نفسي، كيف نسيت أن افعل ذلك، كيف انشغلت تماما، أو ربما هربت تماما من مواجهة الأمر، هربت خلف هاتف محمول اسجل واصور به، وحين سمعت التسجيلات ورأيت الصور للمرة الثانية بعد عودتي، صدمت كأنني ارى واسمع للمرة الأولى، كأن شخص آخر هو الذي ذهب، كم هي مهنة قاسية، وبلد تعلم القسوة، وكل ما أخشاه، أن اعتاد القسوة.