يبدو أنه قد حان الوقت لأن اترك كل شئ وارحل، مجددا، مخلفة كل تلك الاخفاقات والنجاحات والاضطرابات، كل هذا الحب والغضب، والمحاولات البائسة للتسامح والتقبل والتخلي..
تتنازعني رغبة عارمة في حرق الأرض اليابسة التي اقف عليها، مجددا، فأنا لست بارعة في الوقوف على أرض ثابتة، تغريني دائما الأراض المنزلقة الوعرة، التي تثير فضولي وتثير رغبتي في تحدي نفسي والحياة، كما يستهويني ذلك السقوط الحر في نهاية الرحلة، تلك القفزة النهائية التي اقوم بها في لحظات تهور متكررة.
تلك السقطات، التي اسقطها بارادتي الحرة، قصمت ظهري كثير من المرات، كسرت رقبتي، وأحدثت شرخا في قلبي كل مرة، كما أحدثت شروخا في قلوب هؤلاء الذين تركتهم على القمة، بعد أن طلبوا مني الانتظار وعدم السقوط.
لكنه خطأهم وليس خطأي ان يختاروا التعلق بتلك الفوضى المتحركة، تلك الفوضى التي أعجز عن ترتيبها، تلك الفوضى المختبأة خلف وجه برئ طفولي مبتسم دائما، وضحوك رغم كل الصعاب.
هو خطأهم أيضا بسبب ترددهم الشديد في تجربة السقوط معي، يتراجعون دائما، يخافون كثيرا، وأنا لا احب "الجبناء".
كان هناك مبررا مقنعا، على الأقل بالنسبة لي، لتلك السقطة المفاجئة، بالتأكيد لم تكن أبدا في مواجهة أشخاص، ولكنها بالنهاية كانت في مواجهتهم، الآن هي رغبة فقط، ليس لها مبرر.
أتذكر نظرات الفزع على وجوههم، ونظرة اللامبالاة المبتسمة على وجهي، وأنا الوح اثناء السقوط، اتذكر جيدا شعور التحرر من كل شئ، السعادة البالغة والمؤقتة في المخاطرة وتحدي كل المخاوف، في عدم معرفة إن كنت سأنجو من السقطة، أم ستكون تلك نهايتي.
منذ شهور وأنا احاول ترتيب نفسي الفوضوية المتناثرة، أحاول السيطرة على قلبي المتبعثر في كل مكان، احاول التقليل من الغضب الشديد الذي ينتابني في لحظة، فاحرق كل شئ حولي، ولكنني أشعر انني اقمع نفسي بشدة، اقمع فطرتي، التي ليست بالضرورة سليمة.
النتيجة أن رغبتي في القفزة الحرة عاودتني بشدة، تلح علي كصوت المنبه كل صباح، أقول لنفسي لم يعد هناك شئ هنا، لم يعد هناك أمل هنا، لم يعد هناك سوى مشاعر فاترة زائفة، ملل، لا شئ يثير فضولي الآن، لا اتمسك بشئ سوى للحظات معدودة، لا أرغب في امتلاك شئ او أن يمتلكني شئ في المقابل.
لا أعلم ماذا سأخسر في سقطتي المقبلة، ربما اخسر كل شئ، وربما لا أخسر شئ على الإطلاق، لكنها بالتأكيد ستكون مغامرة ومقامرة ايضا، قد اخرج منها باصابات بالغة، على الأغلب سأدركها لاحقا.
لكن يظل الأمر مغري للغاية، هذه المرة لن ينتظرني أحد، ولن أحاول اقناع أحد بالسقوط معي، ساسقط وحدي تماما، وانهض وحدي تماما، لابدأ من جديد، مجددا.
ابدو كمن لا يتعلم دروس الحياة ابدا، اتساءل لماذا لا اهدأ واستقر في مكان، اتساءل عن مصدر تلك الرغبة الملحة في التحرك الدائم، في الهروب، في السقوط، وفي التخلي عن كل شئ، حتى لو كان له قيمة لدي.
لا أعطي ابدا الانطباع الصحيح، رغم قدرتي البارعة على التعبير عن نفسي، الا أنني لم اعبر بصراحة في لحظات هامة عما أشعر به، وعما اريده، بل على العكس ربما اخبر الآخرين اشياء هي معاكسة تماما لما احسه أو ارغب به، بل وقد اتصرف أيضا بشكل معاكس تماما، ربما لأنني لم اثق في أشخاص بما يكفي لكشف نفسي أمامهم، رغم ما يظنونه من معرفتهم الجيدة بي.
أنا غاضبة جدا الآن، غاضبة من قمعي لغضبي، وغاضبة من كل هذا الغضب الذي اشعر به، غاضبة من تلك الفوضى، غاضبة من التنازع الدائم بين المشاعر المتناقضة داخلي، غاضبة من محاولات التسامح والطيبة، ومن فشلي في تحقيقهم أحيانا، غاضبة من مشاعر الحب والكراهية، من العقل والمنطق، غاضبة من عدم الوضوح والحيرة والارتباك الذين يمنعونني أحيانا من الحركة، وغاضبة من عدم قدرتي على الثبات في مكان واحد، غاضبة ممن لم يكونوا جديرين بحبي، غاضبة من جبنهم وارتباكهم، وغاضبة ممن ادعوا محبتي، وغاضبة حتى ممن يحبونني بصدق وأحبهم في المقابل، لذلك ربما ستكون السقطة القادمة مدوية، مفزعة، ولكنها أيضا محررة من كل هذا الغضب.