يسخر مني الأصدقاء مؤخرا حين أبالغ في التعبير عن مشاعري بالغربة. معهم حق ربما، فأنا أتحدث عن الغربة بعد شهر واحد فقط من إقامتي في النصف الآخر من العالم، وهي الإقامة التي تمتد بالأساس لعدة أشهر وليست لبضع سنوات. في الحقيقة رغم الشمس الساطعة التي تذكرني بمدينتي المركبة والمحببة القاهرة، ورغم فهمي للغة البلد التي أعيش بها حاليا، وهي جميعها اسباب تشعرني ببعض الألفة، إلا أن تلك الألفة لا تمنع احساسي ايضا بالاغتراب.
لست متأكدة إن كنت وصلت إلى هذه القارة البعيدة وأنا محملة بالفعل ببعض مشاعر الإغتراب، ربما. بدأ الإغتراب في الحقيقة مع تلك المسافة التي قطعت بعضها اختياريا وبعضها الآخر إجباريا في موطني قبل أن أقطع المسافة سفرا إلى آخر العالم.
ولكن هنا الإغتراب أمر آخر، هو نوبة الفزع التي أشعر بها حين أريد أن "اروح البيت"، ولكن لا بيت أذهب له، حتى وإن بدأت في الاعتياد على منزلي الجديد هنا، ولكنه ليس به كنبتي التي أختبئ بها لأيام هربا من كل شئ. يأتي هذا الإغتراب في نوبة فزع حين أشعر أنني وحيدة، وأنني سأصبح منسية بسبب الغياب، رغم الألفة التي نشأت حول صداقات جديدة هنا.
في الواقع أنا أعلم أيضا أنني أتمسك بالأشياء أكثر مما ينبغي، وعادة ما أتمسك بها اكثر فور أن أتركها، وفي الأغلب سأشعر بالحزن الشديد والغربة لبعض الوقت حين أعود إلى تلك الكنبة التي أحن إليها الآن، بعد أن أكون ألفت تفاصيلي هنا.
أشفق على نفسي وعلى الإنسان من قسوة التغيير، هو مفزع حتى لو كان جميلا ومشرقا، وحتى لو سعينا نحوه.
أتخيل الغربة في مشهد شجرة قديمة تم خلعها من مكانها في الغابة، وزرعها في رصيف على الطريق. رغم أنني لست من الأبراج الفلكية الترابية، وبالتالي لست من هواة الاستقرار كثيرا، إلا أن هذا الخلع مؤلما في بعض الأحيان.
كل هذا لا يعني أنني غير سعيدة، أظن أن الشهر الأول كان الأصعب، ولكن رغم صعوبته تخللته ألفة وسط الصداقات الجديدة، وسط الأمواج، تخللته سعادة ساذجة بكل اكتشاف جديد.
اليوم ذهبت بكل اعتيادية لشحن أبونيه المواصلات، وتجديد خط هاتفي الجديد، وللحظة شعرت أنني أصبحت جزء من المكان. بضع تفاصيل صغيرة ستشعرك بالحزن وأخرى أصغر ستشعرك بالألفة، غريب أمر الإنسان، اسيقظت في أيام أشعر بنوبة فزع بسبب غربتي ووحدتي، وفي الأيام التالية كنت اسير بكل ثقة في الشوارع مع أصدقاء، بدوا كأنهم عشرة سنوات، أو كنت أسير وحدي في شوارع لا أعرفها بكل أريحية أبتسم للحياة.