الاثنين، 19 نوفمبر 2012

اطفال اسيوط

السواد هو ما خرجنا منه وتوجهنا اليه ، السواد فيما رأيناه من أطفال قتلوا غدرا لانهم ذهبوا إلى المدرسة ، وسواد تلحفت به امهاتهم المفطورة قلوبهم حين توجهنا لتعزيتهم في محاولة منا لتخفيف الام نعلم انها لن تخف فلقد فقدن ارواحهن في هذا القطار، قطار الصعيد، السواد في مستقبل نراه لأطفالنا من أتى منهم ومن لم يأتي بعد.

تزامنت كارثة اسيوط مع كارثة غزة، لم استطع الالتحاق بقافلة غزة ، ولم أستطع حتى الترتيب مبكرا للذهاب الى اسيوط ، ولكني مع بعض المحاولات وبمساعدة صديق تمكنت باللحاق بمجموعة الأصدقاء والزملاء المتجهة لأسيوط. وضعت في الصباح كاميرا في حقيبتي تحسبا لاحتمال ذهابي ولكن حين تأكدت أنني ذاهبة كنت قد اتخذت قرارا بأنني لن اصور شئ ولن اسأل في شئ سأخلع ثوب الصحفية الثقيل و الذي خلعته كثيرا منذ بداية الثورة وسأفضل مجددا دور المواطنة او البنى ادمة بلا صفة او هوية..

في مستشفى أسيوط الجامعي أطباء يحاولون قدر المستطاع ولكن بإمكانيات محدودة للغاية وبعجز فظيع لا يعالج مريض عادي فما بالك بمصابين اطفال في حادثة بشعة كتلك الحادثة، أكره المستشفيات لأنني أكره مشهد المرضى واهاليهم وهم مفترشون للبلاط وأكره رائحة الموت المنبعثة من كل مكان.

منذ ثلاثة أعوام أعتقد أنني انهيت حصتي من زيارات المستشفيات الحكومية الى الابد او هكذا اعتقدت حين لففت على أكثر من عشر مستشفيات بتخصصات مختلفة في تحقيق لجريدة البديل عن عجز المستشفيات والأطباء والذي كان نتيجته موت المزيد والمزيد، ولكن في الحقيقة وبعد إكتئاب اصابني نتيجة هذا التحقيق تكررت زياراتي للمستشفيات في كوارث تالية عدة.

اول طفل توجهنا اليه كان محمد  اعتقد انه لا يتجاوز الست سنوات او السبعة صغير للغاية ومكسور من رأسه حتى قدميه، محمد فقد يده في الحادث ولكن الأطباء بالمستشفى حالولوا اعادته، ملفوف كاملا بالشاش وتخرج منه الانابيب من كل مكان لايظهر منه سوى وجهه الذي يحاول جاهدا ان يعبر من خلاله عن اي شئ بصعوبة نتيجة لعدم قدرته على الكلام، فتشعر أنه يريد أن يقول شيئا ولكنه عاجز عن البوح به.

رأينا بعد ذلك في غرفة أخرى للعناية المركزة أطفال كثر لا يظهر منهم الكثير أيضا من بين جبس وشاش يغطي أجسادهم بالكامل ، كانوا نياما لا أعلم إن كان من فرط الألم او نتيجة لمخدر كي يتحملو ألم لم أفهم كيف لاطفال لم يتجاوزوا العاشرة أن يتحملوه.

ثم قابلنا أخيرا اروى وحبيبة ، أروى كانت الفتاة الوحيدة التي مكنتها صحتها من التحدث الينا وكانت ترد علينا ردود واثقة جدا و"لمضة" على الرغم مما تعاني منه، وحين شعرت بالتعب قالت لنا "أنا هانام بقى"، لا تعرف أروى أن أخوها الصغير قد توفى.

كان الوقت قد تأخر جدا وبمساعدة بعض النشطاء الجدعان من اسيوط تمكنا من زيارة اثنين من أمهات الشهداء  أم احمد ومحمد ومحمود التي فقدت كل ما تملك من حاضر ومستقبل في اقل من الدقيقة الواحدة، في الحقيقة لن أستطيع مهما حاولت أن اصف هذه الام الثكلى الصامتة هي لا تبكي، هي لم تكن موجودة بالعزاء شعرت أن عينها كانت تحلق بمكان آخر أو ربما كانت تحاول التمسك بصورة ابناءها الثلاث ثابتة أمامها.

حين قالت لنا واحدة من السيدات الموجودات بالعزاء.."انتو مالكوش صوت في الحكومة؟ مش انتو من مصر؟ماتحاولوا تعملوا حاجة؟ مش حرام عيالنا دي تموت كده؟" اجبت "هنحاول يا حاجة" وشعرت أنني كاذبة  ليس لأننا لن نحاول ولكن لشعوري الشديد بالعجز والشك في أن محاولاتنا قد تأتي بأي نتيجة، على الرغم من استمرارنا في المحاولة وكأنه النفس الباقي لدينا في الحياة.

قابلنا بعد ذلك أم علام ، وبيدلعوه وبيقوله مصطفى، علام كان عمره ثماني سنوات، والده كان قد توفى في حادث ايضا منذ خمس سنوات، وكان علام هو من تبقى لها في الحياة، كان مستقبلها وحاضرها أيضا وراح ايضا في غمضة عين، حكت أم علام عن خجل مصطفى وابتعاده عن اصدقاء السوء وعن تعليمه لها ما كان يتعلمه في المدرسة، ثم حكت عن ابنة عمه المدرسة التي لحقت به في الحادث أيضا وكان متعلقا بها..

أم علام كانت صغيرة في السن هي أيضا لم تبكي ولكنها حاولت، لكن جرحها كان أصعب وأثقل من ان تبكي عليه، الدموع في بعض الأحيان تكون راحة صعبة المنال..

فماذا اذا رأيتم من الأطفال لتسرقوا حياتهم؟ ماذا رأيتم من الأمهات لتسرقوا أرواحهم ومستقبلهم؟ كيف تنامون ليلكم وأنتم تقتلوننا قتلا منظما؟ تقتلوننا لتسرقوا بيوتنا كما في القرصاية..تقتلوننا لتسرقون حقنا في الذهاب الى المدرسة كما في اسيوط.. تصمتون عن قتل اخواتنا في غزة وفي يدكم المقاومة والدعم الحقيقي وليس الرمزي..
هرمنا من شيل الهموم والعجز عن مداواتها...

 كل هذه الكلمات لن تعبر عن حجم حزن الامهات والابهات الذين فقدوا اطفالهم..وهي ليست شهادة فليس هناك ما اشهد به لكنها محاولة للتخفيف عما اشعر به من عجز وغضب وحزن واحباط....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق