في
الواحدة بعد منتصف الليل بعد عشاء لطيف عند أصدقاء قدامى، عائدة إلى منزلي الجديد
في سيارة صديق.. الطريق يبدو قصيرا للغاية رغم طول المسافة، صديقي غارق في التفكير،
وأنا أيضا غرقت ولكني غرقت في الطريق الخالي إلا من بعض سيارات متناثرة، شعرت ببرد
قاسي ربما ضاعفته تلك الألحان الحزينة لأغنية لتوم ويتس لم أسمعها من قبل.. شعرت
للحظة أن هذا الطريق الطويل يبدو وحيدا للغاية، أشفقت عليه من كثرة الإطارات المتلاهثة
فوقه أو قلتها في الوقت ذاته. شعرت بوحدتي الاختيارية أنا أيضا. أتسائل إن كان
ما فعلته صائبا أم لا، هل كان لدي الإختيار حقا!
تذكرت
تلك النجمة الساطعة التي رأيتها اليوم مبكرا من شرفة الأصدقاء، وبدت لي كأنها فتاة
ترقص في السماء ويحيط بها المشجعون، حاولت تخمين المسافة بيني وبين تلك النجمة
ولكني فشلت بالطبع، كل ما استطعت فهمه أنه بقياس طول تلك المسافة مضروبا في
قطر كوكب الأرض وربما المجرة كلها يمكننا قياس اتساع الدنيا. مئات الآلاف من النجوم والكواكب والنيازك والشهب، ومليارات الأميال من
الطرق والجبال والبحار والصحاري، ومليارات من الكائنات الحية من بينهم البشر التائهين
بين حدود وعوائق سياسية وإقتصادية وطبيعية ونفسية، بالإضافة إلى مليارات الكيلو
جرامات من الفراغ الجوي، ومثلهم من الهواء بما يحمله من حياة ومن مليارات الأمتار
من طاقات لكائنات حية وحتى جامدة، سابقة وحاضرة ولاحقة، وطاقات للحب والخيانة
والكراهية والألم، للخير والشر والميوعة، للإبداع والاكتشاف والحظ السعيد أو
التعس. كيف إذا أشكو من ضيق الدنيا!
أفقت من
غرقتي على سيارة لشخص مستهتر تصطدم بنا من ناحيتي، رأيت الموت يقترب مع اقتراب
السيارة للباب المجاور لي، ولم أشعر بشئ.. لا يمكنني التيقن إن كنت شعرت بخوف في
تلك اللحظة! لم أشعر بخوف من يقترب منه الموت مثلما نسمع من روايات من عادوا من تجارب
مماثلة، ها أنا ذا عدت أيضا. أعتقد أن الإنسان لا يشعر بالخوف من الموت في حالتين، إما أن
يكون شاعر بسعادة بالغة وتحقق كبير في الحياة بحيث لم يعد يرغب أو يتمنى المزيد،
أو أنه يائس تماما للدرجة التي لم يعد يرغب فيها في أي شئ، رغم ما يبدو من إنطباق
الحالة الثانية علي، إلا أنني لست بهذا القدر من اليأس بعد، ولكن هذا ليس أمرا
هاما، فالأهم أنني ألحت علي الفكرة التي
تسيطر على عقلي كثيرا مؤخرا، وهي كيف أن العمر قصير جدا وقد ينتهي في أقل من لمحة عين!
كيف
تفتح تلك الجملة القصيرة التي لا يزيد عدد كلماتها عن عشرة كلمات كل هذا القدر من
التساؤلات العبثية والوجودية الآن في الثانية والنصف بعد منتصف الليل؟ لا لن
استجيب لهذه التساؤلات المتزاحمة في رأسي.. ليس الآن.. فأنا الآن أفكر في الخسارة،
ولكن ألا ترتبط الخسارة أيضا بالعمر القصير؟ بعض الخسارات رغم ما تحمله من ألم لا
مفر منها، ولقد كانت خسارتي كبيرة في الأيام الماضية، وعلى مستويات عدة، ولم يحمني
إتخاذي للقرار، مثلما تصورت، من هذا القدر الكبير من الألم.. ولكن لا وقت للألم في
هذا العمر القصير، المشكلة أنه لا وقت لأي شئ سوى الألم، مهما حاولت جاهدة نسيانه،
يحاصرني مجددا.
كم
يشعرني نزع الأشخاص عني بالبرودة! ولقد قررت نزع أشخاص كانوا قريبين قرب الجلد من
اللحم، أعلم أنني ابدو قاسية في كثير من الأحيان، ولكنني أقسو على نفسي ألف مرة قبل
أن اقسو على أحد.. أحيانا أشعر أنه لا أحد يفهمني، ربما أعطي الإشارات الخاطئة،
وربما أتصرف بجنون، وربما أتوقع الكثير من القريبين، أو بالأحرى أتوقع ما كنت سأفعله
أنا لو كنت محلهم.. لست مثالية كما يقول عني البعض، فربما توقع بعض الأمور هو مجرد
غباء، وربما التمسك ببعض المبادئ الإنسانية هو مجرد حماقة..
أكتب
كثيرا هذه الأيام، أكتب لأشخاص عابرين وأشخاص قريبين وأشخاص مجهولين، أعطيهم دورا
في بعض الأحيان لا يرغبون في أداءه أو لا يستحقونه، وقد ادفعهم بقوة خارج حياتي بقدر رغبتي في
ابقائهم وبقدر خوفي من التعلق مجددا. ولكن ماذا إن دفعت الجميع خارج حياتي وبقيت
وحيدة؟
تعود
الآن النجمة الراقصة إلى مخيلتي، الرفيقة المثالية. لن تتوقع مني شئ ولن أتوقع منها
شيئا أنا الأخرى، ستسمع شكواي المتكررة ونواحي كل مساء، وستحاول ان ترسل لي بعض
البهجة، ستغوص في سماءات بعيدة حين تمل مني، وسأغلق انا النافذة ببساطة حين أمل
منها، لنعود ونلتقي مجددا ربما في خلال سنوات، لنحسب سويا مدى اتساع الدنيا أو
ضيقها في ذلك الحين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق