كنت استعد لهذه الأجازة القصيرة منذ أيام، اشتريت تذكرتي ذهابي وعودتي مسبقا، ثلاثة أيام سأقضيها بعيدا عن الضغوط أخيرا، فكما نصحتني طبيبتي، بعد نوبة قلق عنيفة، أمرضتني جسديا، قررت الذهاب إلى المدينة الساحلية، التي أهرب إليها دوما، بعد أحد الانهيارات..
حقيبتي كانت جاهزة في اليوم السابق، كنت متحمسة للغاية، استيقظت في الصباح، وقررت أن يكون يوما طيبا، فقررت تناول الفطور والقهوة، على أن أكون في محطة القطار نصف ساعة قبل الموعد. أنا شخص في العادة سئ المواعيد، اتأخر دائما، ودائما ما أشعر بالحرج والأسف بسبب تأخري، لكنني في العادة لا اتأخر أبدا على مواعيد القطارات والطائرات، ينتابني التزام وحرص، لا يشبهانني في الحقيقة، ولم يفوتني قطار أبدا او طائرة، قبل اليوم..
لم أنتبه للوقت في هذا الصباح، وكنت أحاول طمأنة كلبي المتوتر من نزولي، أنني سأعود، بدأت أشعر بالتوتر أنا الأخرى، أن القطار سيفوتني، نزلت مسرعة على أمل أن أصل في عشر دقائق على الأكثر، وهو الوقت الطبيعي بيني وبين المحطة، إلا أن سائق التاكسي، قرر أن يمر بأكثر الشوارع زحاما، فأخذ الطريق حوالي النصف ساعة، أخبرت السائق لائمة وغاضبة "كده القطر فاتني"، وعلى باب المحطة جائتني مكالمة أن هناك أمر ما مقلق بجوار المحطة، أنهيت المكالمة سريعا، لأركض لداخل المحطة، ربما يكون القطار قد تأخر خمسة دقائق، وحين وصلت فهمت أنني لم يفتني شيئا سوى الموت، أو التشوه، أو تروما جديدة تزيد من نوبات القلق..
نصف ساعة فصلتني عن حادث محطة القطار المفجعة التي جرت صباح الأربعاء، نصف ساعة فقط، لطالما كنت منبهرة بما يصنعه الوقت، وكيف يتدخل القدر والمصادفة في مصائر الأشخاص، بفارق ثوان أو دقائق، ولم أتخيلني في نفس الموقف من قبل. وقفت وسط المتجمهرين حول المحطة، بعد ثوان من عدم الفهم لما يجري، أدركت حجم الكارثة بالداخل، أخرجت هاتفي وقمت بتصوير المشهد، وكان من الطبيعي ومن الواجب أن اقوم بعملي كصحفية، وأحاول الدخول، لكني لم أستطع، في السنوات الماضية رأيت الموت عدة مرات، ونجوت من الموت عدة مرات أيضا، لمصادفات مختلفة، ولكن تلك المرة كانت مختلفة، ربما لم أعد بنفس صلابتي السابقة، ربما أصبحت أكثر هشاشة، لكنني لم أتوقف عن الشعور بأنني كنت سأكون معهم بالداخل لو وصلت قبل دقائق، وهربت من المكان كله، بعد أن تملكني الفزع..
قلت لنفسي كتب الله لي النجاة، فكيف بي أن أدخل هناك، انا أعلم انني ما كنت لأتجاوز المشاهد التي رأيتها لاحقا، لو كنت رأيتها بعيني، كانت ستقضي علي تماما، ثم شعرت بأنانية شديدة، وذنب كبير، لازلت أشعر به الآن، فأنا الناجية، ولدي رفاهية رواية الحكاية المريعة من زاويتي الضيقة، لكنني يجب أن اعترف أنني مفزوعة، وأنا لا أفزع بهذه السهولة، حتى حين يعطي وجهي هذا الانطباع، فزعت من هول الحادث، لا يخرج مشهد الضحايا المحترقين من رأسي، فزعت من تخيل وقع الحادث على كل من كانوا بالداخل، وعلى ذويهم، ورغما عني، تخيلتني مكانهم، فزعت من نجاتي، وتسائلت ان كنت فعلا استحق فرصة أخرى، وفزعت أكثر من احتمالية عبثية الأمر بأكمله، وأنه لا يوجد هناك في الحقيقة أسباب قدرية لمن مات ولمن نجا..
أخجل من فرض نفسي على هذا المشهد الموجع، ولكنني لا أستطع اخراج نفسي منه، أشعر بالحزن، والخوف، والارتباك، والامتنان، وأشعر أنني مدينة بحياتي لمن ماتوا بالداخل، مثلما أشعر بالمسئولية عن موتهم، أشعر بالضآلة الشديدة أمام القدر، وترتيباته، وأشعر بلا جدوى كل شئ. في رأسي هاجس قوي يخبرني أنني ربما نجوت هذه المرة لسداد دين ما، لانهاء فعل ما، ربما لأمر صالح فعلته، وربما للتكفير عن أمور سيئة فعلتها، لن أنسى بالتأكيد هذا اليوم ما حييت، لن أنسى السيدة المصدومة، التي جلست بجواري لاحقا، لتخبرني عما رأته بالداخل، وحين غفلت لدقائق استيقظت مفزوعة، ولن أنسى كل المصادفات التي أخرتني عن المحطة، وسأسعى بكل جهدي أن تكون نجاتي تلك ليست بقدر عبثية الحياة، كيفما استطعت..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق